المدح والذم
في المدح والذم وخطورتهما
خطورة المدح والذم
المدح والذم
ينبغي للمادح أن يتأمل ممدوحه ويتقصى خبره قبل الشروع في المخاطرة ودخول هذه المغامرة، ثم يسأل نفسه ما الذي يريد من وراء مدحه لهذا الشخص وما الذي جعله يميل إليه دون غيره؟ وينبغي أن يكون الدافع للمدح ليس الرغبة في منفعة، ولا الخوف من حصول مضرة، وحينئذ يكون للمدح قيمة وله فائدة.
وإذا كان المادح يريد من مدحه حصول منفعة أو دفع ملمة، فلا غنى له أيضا عن هذا الفحص وإلا لم يحصل علا المراد ولم يجد غير ألم المخاض، وكان كمدح ابن الرومي لأبي الصقر لما ولي الوزارة مدحه بقصيدة زادت على مائتي بيت، مرّ له فيها إحسان كثير، فأنشدها أبا الصقر، فلما سمع قوله:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلّا لعمري ولكن منه شيبان
قال: هجاني، قيل له: إنّ هذا من أحسن المدح؛ ألا تسمع ما بعده:
وكم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان
قال: أنا بشيبان لا شيبان بي. فقيل له فقد قال:
ولم أقصّر بشيبان التي بلغت ... بها المبالغ أعراق وأغصان
لله شيبان قوم لا يشوبهم ... روع إذا الروع شابت منه ولدان
فقال: لا والله لا أثيبه على هذا الشعر، وقد هجاني
.وفي هذه القصيدة يقول في مدح بني شيبان:
قوم سماحتهم غيث، ونجدتهم ... غوث، وآراؤهم في الخطب شهبان
تلقاهم ورماح الخطّ حولهم ... كالأسد ألبسها الآجام خفّان
صانوا النفوس عن الفحشاء وابتذلوا ... منهنّ في سبيل العلياء ما صانوا
المنعمون وما منّوا على أحد ... يوما بنعمى، ولو منّوا لما مانوا
ويقول فيها في مدحه له:
يفديه من فيه عن مقدار فديته ... عن المفاداة. تقصير ونقصان
قوم كأنهم موتى إذا مدحوا ... ومالهم من حبير الشعر أكفان
صاحي الطباع إذا سالت هواجسه ... وإن سألت يديه فهو نشوان
يصحيه ذهن ويأبى صحوه كرم ... مستحكم فهو صاح وهو سكران
فرد جميع يراه كل ذي بصر ... كأنه الناس طرّا وهو إنسان
وقال:
فإن يك سيّار بن مكرم انقضى ... فإنّك ماء الورد إن ذهب الورد
مضى وبنوه وانفردت بفضلهم ... وألف إذا ما جمّعت واحد فرد
ومدحه وعاتبه بقصائد كثيرة فما أنجحت، فمن ذلك قوله في قصيدة طويلة يمدحه:
في وجهه روضة للحسن مونقة ... ماراد في مثلها طرف ولا سرحا
طلّ الحياء عليها ساقط أبدا ... كاللؤلؤ الرّطب لو رقرقته سفحا
أنا الزعيم لمكحول بغرّته ... ألّا يرى بعدها بؤسا ولا ترحا
مهما أتى الناس من طول ومن كرم ... فإنما دخلوا الباب الّذي فتحا
يعطي المزاح ويعطي الجدّ حقّهما ... فالموت إن جد، والمعروف إن مزحا
وافى عطارد والمرّيخ مولده ... فأعطياه من الحظّين ما اقترحا
إن قال: لا، قالها للآمريه بها ... ولم يقلها لمن يستمنح المنحا
في كفّه قلم ناهيك من قلم ... نبلا، وناهيك من كفّ بما اتّشحا
يمحو ويثبت أرزاق العباد به ... فما المقادير إلا ما محا ووحى
كأنما القلم العلوي في يده ... يجريه في أي أنحاء البلاد نحا
لما تبسّم عنك المجد قلت له ... قهقه فلا نغلا تبدى ولا قلحا
أثني عليك بنعماك التي عظمت ... وقد وجدت بها في القول منفسحا
أمطر بذاك جنانى تكسه زهرا ... أنت المحيّا بريّاه إذا نفحا
وقال يعاتبه ويستبطئه:
عقيد النّدى، أطلق مدائح جمّة ... حبائس حسرى قد أبت أن تسرّحا
وكنت متى تنشد مديحا ظلمته ... يرى لك أهجى ما يرى لك أمدحا
عذرتك لو كانت سماء تقشّعت ... سحائبها أو كان روض تصوّحا
ولكنها سقيا حرمت رويّها ... وعارضها ملق كلاكل جنّحا
وأكلاء معروف حرمت مريعها ... وقد عادمنها السهل والحزن مسرحا
عرضت لأورادي وبحرك زاخر ... فلمّا أردن الورد ألفين ضحضحا
فلو لم ترد أذواد غيري غماره ... لقلت: سراب بالمتان توضّحا
فيالك بحرا لم أجد فيه مشربا ... وإن كان غيري واجدا فيه مسبحا
مديحي عصا موسى، وذلك أنني ... ضربت به بحر النّدى فتضحضحا
سأمدح بعض الباخلين لعلّه ... إذا اطّرد المقياس أن يتسمّحا
فيا ليت شعري إن ضربت به الصفا ... أيبعث لي منه جداول سيّحا
كتلك التي أبدت ثرى الأرض يابسا ... وشقّت عيونا في الحجارة سفّحا
ملكت فأسجح يا أبا الصقر إنه ... إذا ملك الأحرار مثلك أسجحا
وما ضرع إلى أحد هذه الضّراعة، ولا في طوقه هذا الاحتمال.
ولإن تعاطف بعضكم مع ابن الرومي، فإني أعتبه وأقول: كيف يخفى أمثال هذا على أمثال ابن الرومي ولماذا لم يعمل فراسته لتتبين له الحقيقة قبل شغل القريحة بشيءٍ لم يحصل منه على المراد وجعله يحيد عن الرشاد.
هذا والمدح مطلوبٌ والذم يحتاج إليه وليس هناك اليوم معصومٌ، فالفراسة قد تخطئ وقد تصيب، ولكن إذا كان المادح لا يريد من مدحه إلا بيان الحقيقة، فإنه يسلم من السقوط في مستنقعات الطمع والاسترزاق.
قال أبو العيناء: لما أدخلت على المتوكل فدعوت له وكلمته استحسن كلامي، وقال لي: بلغني أن فيك شرّا! فقلت: يا أمير المؤمنين؛ إن يكن الشرّ ذكر المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فقد زكّى الله تعالى وذمّ، فقال في التزكية: (نعم العبد إنّه أوّاب) ، وقال في الذم: (همّاز مشّاء بنميم منّاع للخير معتد أثيم) . وقال الشاعر:
إذا أنا لم أمدح على الخير أهله ... ولم أذمم الجبس اللئيم المذّمما
ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه ... وشقّ لي الله المسامع والفما؟
وإن كان الشر كفعل العقرب التي تلسع السّنيّ والدنيّ بطبع لا بتمييز فقد صان الله عبدك عن ذلك.
وسئل أبو العيناء عن مالك بن طوق، فقال: لو كان في زمن بني إسرائيل ونزل ذبح البقرة ما ذبح غيره! قيل: فأخوه عمر؟ قال: كسراب بقيعة يحسبه الظّمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
دخل أبو العيناء على عبيد الله بن سليمان، فشكا إليه حاله، فقال: أليس قد كتبنا لك إلى إبراهيم بن المدبّر؟ فقال: كتبت إلى رجل قد قصّر من همّته طول الفقر، وذلّ الأسر، ومعاناة محن الدّهر، فأخففته في طلبتي! قال: أنت اخترته؟ قال: وما عليّ- أعزّ الله الوزير! - في ذلك؟ قد اختار موسى قومه سبعين رجلا، فما كان منهم رشيد، واختار النبيّ صلى الله عليه وسلم ابن أبي سرح كاتبا، فرجع إلى المشركين مرتدّا، وإختار عليّ بن أبي طالب أبا موسى حاكما له فحكم عليه!
ولمن تعاطفوا مع ابن الرومي وأغضبهم عدم مكافأة أبي الصقر له، فقد قال عليّ بن العباس الرومي لأبي الصقر إسماعيل بن بلبل لما نكبه الموفق ابن أحمد:
لا زال يومك عبرة لعدك ... وبكت بشجو عين ذى حسدك
فلئن نكبت لطالما نكبت ... بك همة لجأت إلى سندك
لو تسجد الأيام ما سجدت ... إلّا ليوم فتّ في عضدك
يا نعمة ولّت غضارتها ... ما كان أقبح حسنها بيدك
فلقد غدت بردا على كبدي ... لمّا غدت حرّا على كبدك
ورأيت نعمى الله زائدة ... لما استبان النّقص في عددك
ولقد تمنّت كل صاعقة ... لو أنها صبّت على كتدك
لم يبق لي مما يرى جسدي ... إلّا بقاء الرّوح في جسدك
وله فيه أهج كثيرة لما نكب، منها قوله:
خفض أبا الصّقر فكم طائر ... خرّ صريعا بعد تحليق
زوّجت نعمى لم تكن كفأها ... فصانها الله بتطليق
لا قدست نعمى تسربلتها ... كم حجة فيها لزنديق.
وقديما قالت العرب لا عاش بخير من لم ير برأيه ما لم ير بعينه.
تعليقات
إرسال تعليق